الأداء الوظيفي للغة
العربية
ما يزال كثير من الناس
يظنُّ أنَّ إتقان اللغة العربية الفصحى نطقاً وكتابةً ليس ضرورياً في هذا العصر،
ويتساءل هؤلاء عن جدوى الفصحى في زمنٍ أصبح فيه شرط الحصول على وظيفةٍ ممتازة
إجادة اللغة الإنجليزية، وإتقان استخدام الحاسب الآلي، ويذهب بعضهم إلى ما هو أكثر
سلبيةً من هذا التصوُّر فيرى أن العصر ليس عصر اللغة العربية، وأن الإنسان العربي
يعيش في قرية كونية صغيرة تحكمها المصالح، والمنافع المادية، التي يسيطر عليها أهل
اللغة الانجليزية بلا منازع.ويطرح بعضهم القضية من جانب آخر يتعلَّق بالمساحة
الضيقة التي حوصرت فيها الفصحى في هذا العصر أسرياً، واجتماعياً، وسياسياً
وثقافياً وإعلامياً، ثم يقول هؤلاء، لماذا أعتني بلغة محصورة في هذه المساحة
الضيقة، وما الذي استفيد منها.وهكذا يأخذ الحديث عن «لغتنا» مسالك شتَّى تدلُّ في
مجملها على أننا أمَّة مقصِّرة تقصيراً كبيراً في خدمة لغتها الخدمة اللاَّئقة
بمقامها العظيم، ودورها الكبير في الرُّقيّ بالتفكير، وفي النجاح الوظيفي في
الحياة.
لقد أفرز هذا التقصير
الذي يمكن أن يسمَّى «إهمالاً» أجيالا من أبنائنا، تتقلَّب ألسنتهم بين العاميات
واللهجات المحلية، واللغات الأجنبية من إنجليزية وغيرها بصورة مؤلمة تجعل
«طمطمانيَّة» العُجْمة مسيطرة على أبناء أمةٍ مهزومة تحتاج إلى من ينهض بها.
هنالك مسألة مهمة لابد
من طرحها بأسلوب علمي موضوعي بعيدٍ عن المبالغة في جانبي التعصُّب للغة العربية
الفصحى أوضدَّها، ألا وهي مسألة أهمية الفصحى في بناء الشخصية وتطويرها، وجودة
أدائها الوظيفي، وتأهيلها لإتقان الأعمال على اختلافها، فإتقان الفصحى بسلاستها
وجمالها وسحرها وسهولتها بعيداً عن التعقيد والتقعُّر يبني شخصية الإنسان بناءً
ذهنياً ونفسياً قوياً، وهذا البناء القويُّ عاملُ مهم من عوامل جودة العمل
وإتقانه، وهذه المسألة يتفق عليها علماء اللغات، والاجتماع، وعلماء النفس
والتربية، ويجمعون على أنَّ الإنسان الذي يتقن لغته ويعتني بها يكون أقوى شخصية،
وأفضل أداءً، وأكثر استقراراً نفسياً، وأقربُ إلى العطاء والإنتاج المتميز.
والشواهد على هذا كثيرة
في زماننا هذا، فالياباني، والصيني، والألماني، والفرنسي، لم يحتج أحدهم إلى إهمال
لغته الأصيلة حتى يكون إنساناً عملياً منتجاً، وبلادهم لم تحتج الى اللغة
الإنجليزية حتى تكون بلاداً متطوِّرة صناعياً، قويةً اقتصادياً، مع أنهم يعيشون
معنا في العالم نفسه الذي تشكل الدول العظمى فيه الناطقة بالانجليزية مركز القوة
والهيمنة.بل إن الملاحظ «الثابت» أنَّ تلك الدول التي لم تهمل لغاتها قد نجحتْ في
بناء كيانها القويِّ صناعياً، واقتصادياً، وثقافياً وإعلامياً دون أن تحتاج إلى
مثل هذه الهزيمة النكراء أمام الإنجليزية التي نعيش آثارها السلبية في عالمنا
العربي.بل إن الدولة الصيونية الصغيرة في حجمها، المحالفة لأمريكا وبريطانيا بلدي
اللغة الانجليزية الكبيرين، لم تنظر إلى اللغة «العبرية» الأصيلة بمنظار
الانهزامية وإنَّما عُنيت بها كل العناية، وجعلتها أساساً من أسس بناء ما يُسمى
دولة إسرائيل، التي نرى جميعاً قوتها العسكرية، والاقتصادية، وعمقها الثقافي مع
كونها دولة صغيرة قائمة على احتلالٍ وغَصْبّ وقتلٍ وسلبٍ ونهب.
إنَّ اللغة العربية
الفصحى ضرورة وظيفية «لأبنائنا، فهنالك ضعفٌ في الأداء الوظيفي نطقاً وكتابة،
وطريقة تعامل، يشكل ضعف اللغة العربية الفصحى جانباً مهماً من جوانبه، فلا يصح مع
ذلك ما يُشاع في اوساط كثيرٍ من أبناء العربية من عدم أهميتها في الأداء الوظيفي
في الحياة المعاصرة».